(بوح المشاعر في الرحيل القضائي)
الحمد لله ، ثم الحمد لله، ثم الحمد لله كما ينبغي اجلالا لوجهه وعظيم سلطانه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبتوفيقه تغتنم الباقيات ، له الخلق والأمر ، له الحكمة البالغة في كل تدبيره وآجاله .
بعد ثلاثة عقود من العمل القضائي ، وبعد خمسة خطابات في طلب التقاعد ابتدأت في ١٤٣٨/١/٢٢ يوافق المجلس الأعلى للقضاء على طلب الإحالة للتقاعد في ١٤٣٩/٦/١٢ ومن لطيف التدبير الالهي أن يتوافق ذلك مع يوم وشهر مباشرتي الفعلية للقضاء في ٦/١٢ بعد الملازمة ٠
فشكرًا معالي رئيس المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل ، وشكرا لأصحاب المعالي أعضاء المجلس قامة قامة ، فلهم جميعاً مني الحمد والثناء والدعاء ٠
بعد ثلاثين عاماً أترجل من القضاء لأضع هذا الوزر الثقيل عن كاهلي ، كيف والله تعالى يقول ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) والمقضي به هو القول الثقيل ٠
إنه من أيام السّعد أن تخلع جلباب القضاء وقد تدثرت به ثلاثين سنة ، عشتها بكل أيامها ولياليها قاضياً ، إي وربي كانت أنفاسنا مختلطة بهمّ القضاء ، فصورتك الذهنية عند الجميع (( أنت قاض)) ، ومجتمعك يصفك بعملك (( أنت قاض )) ومحيطك القريب يصفك بعملك (( أنت قاض )) ٠٠٠وكأن القضاء تجسد ظلاً ملازماً لك ، فتحشر في نفسية خاصة ، يتشربها عقلك الظاهر والباطن بصريح اللفظ وتلميحه ، فينعكس ذلك على شعورك ووجدانك ومبادراتك وحيويتك وتعاملك ، حتى تصل إلى مرحلة الغربة في محيطك !! لماذا : لأنك : ((قاض))
إنه مصداق خبره عليه الصلاة والسلام ( من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين ) ٠
هذه صورة واحدة _فقط _من عشرات الصور لهذا الذبح ، ولو لم يكن الا الإحتراق النفسي الداخلي ، الذي يتلقاه القاضي في الأسبوع أكثر من مره ، عندما تعترك في نفسه وفؤاده السهام الحادة ، لتسيل منها دماء الكبت والغيظ الداخلي ، يدفعه لهذا الإحتراق بعض القضايا الثقيلة ، أو بعض المترافعين ، أو هو همّ الصراع بالخروج في كل قضية بما يبرىء الذمة في فهمها و فقهها و تكييفها ونظامها و تحقيق العدالة والتجرد فيها ، ومن ثمّ الحكم فيها وانهاء اجراءاتها واكمال توابعها ، مع مايصطحبه القاضي _خلال ذلك _من مراقبة الله في تحقيقه لها، واستحضار مشهد عرض القضايا كلها بين يديه سبحانه ٠
إنه صراع نفسي داخلي ، عسير الهضم ، ثقيل الوقع .
لك الله أيها القاضي ، ففي وقت تجليات القاضي الذهنية والفكرية في نهاية يومه _ وحيدا _ وهو يحاسب نفسه عن أعماله القضائية لذلك اليوم وعن براءة ذمته منها _ و يتعقل اثناء ذلك حديث القضاة ثلاثة _ ثم يُهيئ نفسه للإستعداد لغده لاستقبال قضاياه ، فبينما هو كذلك مستطرداً في باب المحاسبة والمجاهدة والمراقبة إذ بالنوم ينفضُّ عنه ، فيطارده فلا يستطيع له سبيلا ، فيدخل في سُهادٍ أدهم ، ولسان حاله قول الأعشى :
أَرِقتُ وماهَذا السُهادُ المُؤَرِقُ * ومَابِيَ مِن سقمٍ ومَابِيَ مَعْشَقُ
إنها ليالي خُلّص القضاة ، إنها الآلام القضائية ، إنها متلازمة النفسية القضائية التي لا يستطيع القاضي أن يعبر عنها ، أو يبوح بها ، كما لا يمكن أبداً أن يشعر بها إلا من امتهن القضاء ، ولهذا لا أحد يتخيل هذا الألم ، أو يحمله ، أو يجازي القاضي عنه ، أو يقدره عليه إلا العالم بالأنفس سبحانه وتعالى... ولذا أقولها مُعلنةً :
( هلك من لم يحتسب من القضاة ) .
ليس هذا حثاً على التقاعد أو دعوة إليه ؛ وإنما هو وفاء لزملائي فرسان الميدان ( قضاة محاكم الدرجة الأولى ) لأنهم الصف الأول للعدالة ، وهم أصحاب المعاناة الأولى ، وهم العنوان القضائي الأول ، وهم مقياس نضجه وقوته وانجازه ، وتحقيقه للعدالة والتجرد والعمق، ومدى تأصل قواعد القضاء وطرق الإثبات في قضائنا ، وبهم يظهر العلم بتطبيق الأحكام الفقهية والنظامية في العملية القضائية في موضعها وبمقتضياتها ، فحُق لأصحاب الفضيلة قضاة الدرجة الاولى الشكر و التقدير والتبجيل والحمد ، والدعاء والإعانة والتيسير ٠
إن القاضي المتجرد العالم العادل المنجز الجاد والخلوق ، إنما ينحت همّ ذلك من جسده ، ويستطيق ذلك من عافيته ونفسيته وطمأنينته ، وايثاره بوقته ومشاغله وراحته في سبيل البحث والدقة والإتقان لكل قضيه تعرض عليه ، ولو فتر أو كسل لحظة واحدة في أي اتجاه او لأي سبب ؛ لاختلت لديه موازين العدالة ، ولتتابعت عليه الزلات ، فلا سبيل له حينئذٍ إلا الجد والمثابرة والمصابرة والمرابطة ( يايحيى خذ الكتاب بقوة ) ( خذوا ماآتيناكم بقوة ) وهو يكابد ذلك ، إذ السنون تزحف به ، وتحرق مراحل عمره ؛ فتضعه شيخاً كبيراً وزميل دراسته لايزال فتيا شاباً ٠
هذا هو ميدان القضاء ، وأولئك هم القضاة ٠
هي رسالة لكل من يوجه سهام النقد الجارح للقضاة ليقال له : رويدك ثم رويدك (( ففهمناها سليمان )) وعلى رسلكم ، فالنقد إنما يكون لعمل القاضي وليس لشخص القاضي ، كما أن النقد المتعلق بعمل القاضي قد كفله النظام من خلال نظام المرافعات والمحاماة ، فضلا عن الدور الرقابي للمجلس الأعلى في ذلك، فكونوا عونا للقضاة لتحقيق العدالة والوصول للحق، فالسماوات والأرضون لم تقوما الا على القسط ، والجميع مطالب به ، فكما أن من حقوق المترافع أن يحكم له بالعدل والحق والتجرد ، وأن لايبخس ماله من حقوقٍ مكفولة نظاما وشرعا ، فمن جهته فهو أيضاً مطالب أن يسلك المنهج ذاته من عدلٍ وتجردٍ في تقييم القائمين بالعدالة ورعاتها في لفظه ، وكتابته ، ومجالسه ، ومداخلاته ٠
حُق لي بما تقدم أن أصف حال القاضي ليعرف الجميع قدره ، وحُق لي أن أقيم هذه الشهادة لهذا المشهد بعد أن ترجلت من القضاء ، وأما قبل ذلك فلم أكن لأصنع هذه الشهادة لنفسي ٠
شكرٌ آخر لأصحاب المقامات العَلِيّة والنضج القضائي والرسوخ العلمي أصحاب الفضيلة قضاة محاكم الإستئناف ، هم بحق مدرسة التقاضي ، وجامعة القضاء ، فلهم الحمد والشكر والدعاء على صبرهم وديمومة جديتهم ونضج عطائهم ، بهم تتيقن العدالة و تقطع الأحكام ؛ إذ هم يتحققون من ميزان العدالة في كل قضية تعرض عليهم ، وهم مشاركون لأصحاب الفضيلة قضاة الدرجة الأولى ، حيث يجتمع في عملهم الكشف والإنشاء ، فهم من جهة كاشفون لأوجه الخلل -إن وجد - ثم إذا لم يستجب القاضي في تعديل الحكم وفقاً للملحوظة كان بيدهم النقض ، وحينئذ يشاركون القاضي في تعديل أو إنشاء الحكم _ ولايلزم من معنى الإنشاء المباشرة _ وتبعاً لذلك فهم مشاركون له في الذمة وتحمل المسؤولية ، بل لعل الحمل عليهم أكثر ، إذ يلزمهم فهم القضية كماهي في نظرة كل طرف ثم فقهها وتَبيّن تنزيل الحكم فيها والبينات والدفوع ٠٠٠٠ثم دراسة الحكم على ضوء ماقدمه المعترض بعد الإستيعاب الكامل له بقراءة فاحصة ، إنهم الملاذ شبه الأخير للقطع في القضية ؛ إنهم بذلك يحملون ذات الهم الذي يحمله قاضي الدرجة الأولى ؛ لكي يخرجوا ببراءة ذممهم وإقامة العدل الذي وُلّوا عليه ؛ لأنهم مسؤلون ديانة عن كل تقصير وتفريط في دراسة القضايا ، وفي تحقق الحكم الشرعي فيها ، فأعانهم الله وسددهم .
وشكرٌ خاص لرفقة العمل في التفتيش القضائي ، حيث ثماني حجج قضيتها هنالك ، نصفها الأول في التفتيش القضائي والنصف الآخر في التحقيق القضائي ، فالشكر والدعاء والثناء لزملائي المفتشين القضائيين ، على تفانيهم وصبرهم وجديتهم وحياديتهم ، وعمقهم في ترسيخ الرقابة القضائية الحقة .
إنها مراحل الحياة ، وهن الأيام الرواحل : فأنت _ يابن آدم _ في سفر منذ أبيك آدم الى أن يستقر مقامك بجنة أو نار ، ولكن لايتبصر بهذا السفر إلا العقلاء أصحاب اليقين ، ومن أبدع من صور رحلة السفر هذه الراغب الأصفهاني رحمه الله في كتابه اللطيف ( تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين )
فقال :
( الإنسان مسافر ، ومبدأ سفره من حيث أشار إليه تعالى بقوله : ( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين ) ومنتهى سفره دار السلام ودار القرار ، وله في سفره أربعة منازل ، ظهر أبيه وبطن أمه وظهر الأرض والموقف ، وله حالتان حالة هو فيها مستودَع ، وهو مادام في هذه المنازل ، وحالة هو فيها مستقَر ، وهو إذا حصل في دار القرار ، وإلى ذلك أشار الله بقوله (( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع )) ، والمنزل الذي فيه يحتاج إلى تزود ظهر الأرض ، فالإنسان في كدح وكبد ، مالم ينته الى دار القرار كما قال تعالى ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) ٠٠٠٠٠) اهـ كلامه
إنه من أ كبر النعم عليّ أنني ترجلت من القضاء ، ولاأجد في نفسي حرجا مما قضيتُ به وقررتُه وقت عملي كله ، سواء في القضاء العام والذي دام اثنتين وعشرين سنة ، أو في التفتيش القضائي بعد ذلك والذي دام ثمان سنوات ؛ لأن الله نفعني بقاعدة كنت أسير عليها منذ أول يوم لي في القضاء ، وقد جعلتها نصب عيني ، وأذكرها ههنا للذكرى ، وللإستلهام لعلها تكون سُنّة حسنة ينتفع بها ، هذا المبدأ أنني بعد استفراغ الوسع علماً وفهماً للواقعة ، واستكمال موجباتها ومقتضياتها ، ثم رسوخ فقهها وقضائها ونظامها ، والاستشارة عند الحاجة أو لتحقيق اليقين في المقضي فيه والمقضي به ، استحضر في كل ذلك أنه لوقدر أن مَلك الموت حضر بعد نصف ساعة من إصدار حكمي أو قراري في كل تقرير أو بعد كل جلسة تضمنت نقاشاً يتعلق بذلك لما رجعت عن أي شي ، ولتقربت إلى الله بما صدر مني في أي مرحلة من المراحل ، وهذا نفعني في استثارة التجرد وتفعيله وواقعيته ، ولإستتام المُكنة العلمية والقضائية لأسلم من الوقوع في القضاء بالجهل ، ولإستحضار الاجراءات والأنظمة حتى لا أظلم أحدا له حق قد كفله له النظام ، وحتى أتحقق قبل ذلك من فهمي الحقيقي للواقعة كما هي لا كما بدر لي في بادئ الرأي ، وحتى أحذر من أن يكون فهمي من إيحاءات العقل الباطن أللاواعي ، أو لاختلال التصور أو قصوره في ذلك ، فعندما عودت نفسي وألزمتها ، بل وقصرتها على ذلك وجدت - ولله الحمد - انشراحا في الصدر ، وطمأنينة في النفس ، ومنهجاً في براءة الذمة ، ولايكلف الله نفساً إلا وسعها ، و ليس هذا من قبيل الثناء وتزكية النفس ، فمعاذ الله أن أقع في هذا الوحل النتن ، ولكن _ومع ترددي كثيرا في ذكر هذا المنهج _ فقد قدّرت وغلّبت حسن الظن من القارئ ؛ لأني أردت إبراز هذا المنهج الذي يوصل الى نتيجة حميدة يحصد جناها القاضي لحظة مغادرته القضاء _ وكلنا راحلون _ فيسلم من جلد الذات ، ومن تأنيب قلبه ، ومن وقوعه في التظالم والظلمات ؛ لأن عمله متعلق بحقوق العباد المبنية على التشاح أو بحقوق المجتمع والعامة ، وإلا فإن التقصير والغفلة والخطأ هو ديدن البشر ، ولا أبرئ نفسي من ذلك ، والعصمة لم تكن لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وحسبي أني مجتهد بما فتح الله علي ، والله يغفر ويتجاوز ، وحولي وقوتي من الله وبالله ، والله يتولى السرائر ، والقيامة موعد الجميع ، والأمر يومئذ لله .
إنه مع شرف القضاء ، وعلو منزلة القاضي ، فإن النفس لأمارة بالسوء ، فإذا لم يصل القاضي الى مرحلة يَخشى على نفسه من نفسه ، فقد فاتته قوارب النجاة ٠
إن الحقيقة الثابتة _ لتصحيح الصورة الذهنية المختلة لدى كثيرين _ هي : أن القضاء الشرعي ليس غاية في ذاته ، وإنما وسيلة لمخرجه الذي هو الفصل في الخصومات بالحق والعدل ، وتبعاً لهذا المفهوم فالوظيفة القضائية ليست شرفا بذاتها أو غاية يُسعى لها ، وإنما بتحقق المخرج وصحته وصوابيته من كل وجه ، وتأسيساً على ذلك ، فالوصول الى اليقينية وغلبة الظن في المخرجات وتحققها لا يتأتى إلا باستعدادات قوية ، مَكيْنة ومتكاملة ( علمية _ قضائية وفقهية _ ونظامية ، وعقلية _ وهي الوصول الى أعلى مدركات الفهم للواقعة المقضي فيها _ في انضباطية جادة ، ومنجزات سريعة متقنة ) وتكون في بيئة غاية في التجرد والشفافية ، فهذه المنظومة المتكاملة هي الوسيلة للوصول الى أعلى مراتب العدل ، وعلى كل هذه الأسس ينبغي أن تنطلق كل التقويمات ، والتقييمات ، والمعايير ، والتطوير ، والمشاريع ٠
وافر الشكر والإمتنان والدعاء لولاة الأمر - وفقهم الله وسددهم- على حرصهم لرعاية المرفق القضائي ، والحفاظ على استقلاليته وهيبته ، والوقوف على متطلباته وحاجياته .
أسأل الله لي ولجميع العاملين في مرفق العدالة ولجميع المسلمين الثبات والتوفيق والسداد ، إن ربي سميع قريب مجيب٠
إنه بعد تتويج الموافقة الكريمة السامية ، تُطوى مرحلة من حياتي العملية ( كقاض ) لأستقبل مرحلة أخرى إن شاء الله ، ولأتجرد من كل الألقاب القضائية ، التي كانت تسبق الاسم ؛ ليبقى اسمي متصدراً متحرراً من أي لقب ( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) ولأعود كما سُميت في نشأتي ، فإني الفقير الى عفو ربه الودود
بقلم /عبدالله بن إبراهيم آل داود
بعد ثلاثة عقود من العمل القضائي ، وبعد خمسة خطابات في طلب التقاعد ابتدأت في ١٤٣٨/١/٢٢ يوافق المجلس الأعلى للقضاء على طلب الإحالة للتقاعد في ١٤٣٩/٦/١٢ ومن لطيف التدبير الالهي أن يتوافق ذلك مع يوم وشهر مباشرتي الفعلية للقضاء في ٦/١٢ بعد الملازمة ٠
فشكرًا معالي رئيس المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل ، وشكرا لأصحاب المعالي أعضاء المجلس قامة قامة ، فلهم جميعاً مني الحمد والثناء والدعاء ٠
بعد ثلاثين عاماً أترجل من القضاء لأضع هذا الوزر الثقيل عن كاهلي ، كيف والله تعالى يقول ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) والمقضي به هو القول الثقيل ٠
إنه من أيام السّعد أن تخلع جلباب القضاء وقد تدثرت به ثلاثين سنة ، عشتها بكل أيامها ولياليها قاضياً ، إي وربي كانت أنفاسنا مختلطة بهمّ القضاء ، فصورتك الذهنية عند الجميع (( أنت قاض)) ، ومجتمعك يصفك بعملك (( أنت قاض )) ومحيطك القريب يصفك بعملك (( أنت قاض )) ٠٠٠وكأن القضاء تجسد ظلاً ملازماً لك ، فتحشر في نفسية خاصة ، يتشربها عقلك الظاهر والباطن بصريح اللفظ وتلميحه ، فينعكس ذلك على شعورك ووجدانك ومبادراتك وحيويتك وتعاملك ، حتى تصل إلى مرحلة الغربة في محيطك !! لماذا : لأنك : ((قاض))
إنه مصداق خبره عليه الصلاة والسلام ( من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين ) ٠
هذه صورة واحدة _فقط _من عشرات الصور لهذا الذبح ، ولو لم يكن الا الإحتراق النفسي الداخلي ، الذي يتلقاه القاضي في الأسبوع أكثر من مره ، عندما تعترك في نفسه وفؤاده السهام الحادة ، لتسيل منها دماء الكبت والغيظ الداخلي ، يدفعه لهذا الإحتراق بعض القضايا الثقيلة ، أو بعض المترافعين ، أو هو همّ الصراع بالخروج في كل قضية بما يبرىء الذمة في فهمها و فقهها و تكييفها ونظامها و تحقيق العدالة والتجرد فيها ، ومن ثمّ الحكم فيها وانهاء اجراءاتها واكمال توابعها ، مع مايصطحبه القاضي _خلال ذلك _من مراقبة الله في تحقيقه لها، واستحضار مشهد عرض القضايا كلها بين يديه سبحانه ٠
إنه صراع نفسي داخلي ، عسير الهضم ، ثقيل الوقع .
لك الله أيها القاضي ، ففي وقت تجليات القاضي الذهنية والفكرية في نهاية يومه _ وحيدا _ وهو يحاسب نفسه عن أعماله القضائية لذلك اليوم وعن براءة ذمته منها _ و يتعقل اثناء ذلك حديث القضاة ثلاثة _ ثم يُهيئ نفسه للإستعداد لغده لاستقبال قضاياه ، فبينما هو كذلك مستطرداً في باب المحاسبة والمجاهدة والمراقبة إذ بالنوم ينفضُّ عنه ، فيطارده فلا يستطيع له سبيلا ، فيدخل في سُهادٍ أدهم ، ولسان حاله قول الأعشى :
أَرِقتُ وماهَذا السُهادُ المُؤَرِقُ * ومَابِيَ مِن سقمٍ ومَابِيَ مَعْشَقُ
إنها ليالي خُلّص القضاة ، إنها الآلام القضائية ، إنها متلازمة النفسية القضائية التي لا يستطيع القاضي أن يعبر عنها ، أو يبوح بها ، كما لا يمكن أبداً أن يشعر بها إلا من امتهن القضاء ، ولهذا لا أحد يتخيل هذا الألم ، أو يحمله ، أو يجازي القاضي عنه ، أو يقدره عليه إلا العالم بالأنفس سبحانه وتعالى... ولذا أقولها مُعلنةً :
( هلك من لم يحتسب من القضاة ) .
ليس هذا حثاً على التقاعد أو دعوة إليه ؛ وإنما هو وفاء لزملائي فرسان الميدان ( قضاة محاكم الدرجة الأولى ) لأنهم الصف الأول للعدالة ، وهم أصحاب المعاناة الأولى ، وهم العنوان القضائي الأول ، وهم مقياس نضجه وقوته وانجازه ، وتحقيقه للعدالة والتجرد والعمق، ومدى تأصل قواعد القضاء وطرق الإثبات في قضائنا ، وبهم يظهر العلم بتطبيق الأحكام الفقهية والنظامية في العملية القضائية في موضعها وبمقتضياتها ، فحُق لأصحاب الفضيلة قضاة الدرجة الاولى الشكر و التقدير والتبجيل والحمد ، والدعاء والإعانة والتيسير ٠
إن القاضي المتجرد العالم العادل المنجز الجاد والخلوق ، إنما ينحت همّ ذلك من جسده ، ويستطيق ذلك من عافيته ونفسيته وطمأنينته ، وايثاره بوقته ومشاغله وراحته في سبيل البحث والدقة والإتقان لكل قضيه تعرض عليه ، ولو فتر أو كسل لحظة واحدة في أي اتجاه او لأي سبب ؛ لاختلت لديه موازين العدالة ، ولتتابعت عليه الزلات ، فلا سبيل له حينئذٍ إلا الجد والمثابرة والمصابرة والمرابطة ( يايحيى خذ الكتاب بقوة ) ( خذوا ماآتيناكم بقوة ) وهو يكابد ذلك ، إذ السنون تزحف به ، وتحرق مراحل عمره ؛ فتضعه شيخاً كبيراً وزميل دراسته لايزال فتيا شاباً ٠
هذا هو ميدان القضاء ، وأولئك هم القضاة ٠
هي رسالة لكل من يوجه سهام النقد الجارح للقضاة ليقال له : رويدك ثم رويدك (( ففهمناها سليمان )) وعلى رسلكم ، فالنقد إنما يكون لعمل القاضي وليس لشخص القاضي ، كما أن النقد المتعلق بعمل القاضي قد كفله النظام من خلال نظام المرافعات والمحاماة ، فضلا عن الدور الرقابي للمجلس الأعلى في ذلك، فكونوا عونا للقضاة لتحقيق العدالة والوصول للحق، فالسماوات والأرضون لم تقوما الا على القسط ، والجميع مطالب به ، فكما أن من حقوق المترافع أن يحكم له بالعدل والحق والتجرد ، وأن لايبخس ماله من حقوقٍ مكفولة نظاما وشرعا ، فمن جهته فهو أيضاً مطالب أن يسلك المنهج ذاته من عدلٍ وتجردٍ في تقييم القائمين بالعدالة ورعاتها في لفظه ، وكتابته ، ومجالسه ، ومداخلاته ٠
حُق لي بما تقدم أن أصف حال القاضي ليعرف الجميع قدره ، وحُق لي أن أقيم هذه الشهادة لهذا المشهد بعد أن ترجلت من القضاء ، وأما قبل ذلك فلم أكن لأصنع هذه الشهادة لنفسي ٠
شكرٌ آخر لأصحاب المقامات العَلِيّة والنضج القضائي والرسوخ العلمي أصحاب الفضيلة قضاة محاكم الإستئناف ، هم بحق مدرسة التقاضي ، وجامعة القضاء ، فلهم الحمد والشكر والدعاء على صبرهم وديمومة جديتهم ونضج عطائهم ، بهم تتيقن العدالة و تقطع الأحكام ؛ إذ هم يتحققون من ميزان العدالة في كل قضية تعرض عليهم ، وهم مشاركون لأصحاب الفضيلة قضاة الدرجة الأولى ، حيث يجتمع في عملهم الكشف والإنشاء ، فهم من جهة كاشفون لأوجه الخلل -إن وجد - ثم إذا لم يستجب القاضي في تعديل الحكم وفقاً للملحوظة كان بيدهم النقض ، وحينئذ يشاركون القاضي في تعديل أو إنشاء الحكم _ ولايلزم من معنى الإنشاء المباشرة _ وتبعاً لذلك فهم مشاركون له في الذمة وتحمل المسؤولية ، بل لعل الحمل عليهم أكثر ، إذ يلزمهم فهم القضية كماهي في نظرة كل طرف ثم فقهها وتَبيّن تنزيل الحكم فيها والبينات والدفوع ٠٠٠٠ثم دراسة الحكم على ضوء ماقدمه المعترض بعد الإستيعاب الكامل له بقراءة فاحصة ، إنهم الملاذ شبه الأخير للقطع في القضية ؛ إنهم بذلك يحملون ذات الهم الذي يحمله قاضي الدرجة الأولى ؛ لكي يخرجوا ببراءة ذممهم وإقامة العدل الذي وُلّوا عليه ؛ لأنهم مسؤلون ديانة عن كل تقصير وتفريط في دراسة القضايا ، وفي تحقق الحكم الشرعي فيها ، فأعانهم الله وسددهم .
وشكرٌ خاص لرفقة العمل في التفتيش القضائي ، حيث ثماني حجج قضيتها هنالك ، نصفها الأول في التفتيش القضائي والنصف الآخر في التحقيق القضائي ، فالشكر والدعاء والثناء لزملائي المفتشين القضائيين ، على تفانيهم وصبرهم وجديتهم وحياديتهم ، وعمقهم في ترسيخ الرقابة القضائية الحقة .
إنها مراحل الحياة ، وهن الأيام الرواحل : فأنت _ يابن آدم _ في سفر منذ أبيك آدم الى أن يستقر مقامك بجنة أو نار ، ولكن لايتبصر بهذا السفر إلا العقلاء أصحاب اليقين ، ومن أبدع من صور رحلة السفر هذه الراغب الأصفهاني رحمه الله في كتابه اللطيف ( تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين )
فقال :
( الإنسان مسافر ، ومبدأ سفره من حيث أشار إليه تعالى بقوله : ( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين ) ومنتهى سفره دار السلام ودار القرار ، وله في سفره أربعة منازل ، ظهر أبيه وبطن أمه وظهر الأرض والموقف ، وله حالتان حالة هو فيها مستودَع ، وهو مادام في هذه المنازل ، وحالة هو فيها مستقَر ، وهو إذا حصل في دار القرار ، وإلى ذلك أشار الله بقوله (( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع )) ، والمنزل الذي فيه يحتاج إلى تزود ظهر الأرض ، فالإنسان في كدح وكبد ، مالم ينته الى دار القرار كما قال تعالى ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه )( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) ٠٠٠٠٠) اهـ كلامه
إنه من أ كبر النعم عليّ أنني ترجلت من القضاء ، ولاأجد في نفسي حرجا مما قضيتُ به وقررتُه وقت عملي كله ، سواء في القضاء العام والذي دام اثنتين وعشرين سنة ، أو في التفتيش القضائي بعد ذلك والذي دام ثمان سنوات ؛ لأن الله نفعني بقاعدة كنت أسير عليها منذ أول يوم لي في القضاء ، وقد جعلتها نصب عيني ، وأذكرها ههنا للذكرى ، وللإستلهام لعلها تكون سُنّة حسنة ينتفع بها ، هذا المبدأ أنني بعد استفراغ الوسع علماً وفهماً للواقعة ، واستكمال موجباتها ومقتضياتها ، ثم رسوخ فقهها وقضائها ونظامها ، والاستشارة عند الحاجة أو لتحقيق اليقين في المقضي فيه والمقضي به ، استحضر في كل ذلك أنه لوقدر أن مَلك الموت حضر بعد نصف ساعة من إصدار حكمي أو قراري في كل تقرير أو بعد كل جلسة تضمنت نقاشاً يتعلق بذلك لما رجعت عن أي شي ، ولتقربت إلى الله بما صدر مني في أي مرحلة من المراحل ، وهذا نفعني في استثارة التجرد وتفعيله وواقعيته ، ولإستتام المُكنة العلمية والقضائية لأسلم من الوقوع في القضاء بالجهل ، ولإستحضار الاجراءات والأنظمة حتى لا أظلم أحدا له حق قد كفله له النظام ، وحتى أتحقق قبل ذلك من فهمي الحقيقي للواقعة كما هي لا كما بدر لي في بادئ الرأي ، وحتى أحذر من أن يكون فهمي من إيحاءات العقل الباطن أللاواعي ، أو لاختلال التصور أو قصوره في ذلك ، فعندما عودت نفسي وألزمتها ، بل وقصرتها على ذلك وجدت - ولله الحمد - انشراحا في الصدر ، وطمأنينة في النفس ، ومنهجاً في براءة الذمة ، ولايكلف الله نفساً إلا وسعها ، و ليس هذا من قبيل الثناء وتزكية النفس ، فمعاذ الله أن أقع في هذا الوحل النتن ، ولكن _ومع ترددي كثيرا في ذكر هذا المنهج _ فقد قدّرت وغلّبت حسن الظن من القارئ ؛ لأني أردت إبراز هذا المنهج الذي يوصل الى نتيجة حميدة يحصد جناها القاضي لحظة مغادرته القضاء _ وكلنا راحلون _ فيسلم من جلد الذات ، ومن تأنيب قلبه ، ومن وقوعه في التظالم والظلمات ؛ لأن عمله متعلق بحقوق العباد المبنية على التشاح أو بحقوق المجتمع والعامة ، وإلا فإن التقصير والغفلة والخطأ هو ديدن البشر ، ولا أبرئ نفسي من ذلك ، والعصمة لم تكن لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وحسبي أني مجتهد بما فتح الله علي ، والله يغفر ويتجاوز ، وحولي وقوتي من الله وبالله ، والله يتولى السرائر ، والقيامة موعد الجميع ، والأمر يومئذ لله .
إنه مع شرف القضاء ، وعلو منزلة القاضي ، فإن النفس لأمارة بالسوء ، فإذا لم يصل القاضي الى مرحلة يَخشى على نفسه من نفسه ، فقد فاتته قوارب النجاة ٠
إن الحقيقة الثابتة _ لتصحيح الصورة الذهنية المختلة لدى كثيرين _ هي : أن القضاء الشرعي ليس غاية في ذاته ، وإنما وسيلة لمخرجه الذي هو الفصل في الخصومات بالحق والعدل ، وتبعاً لهذا المفهوم فالوظيفة القضائية ليست شرفا بذاتها أو غاية يُسعى لها ، وإنما بتحقق المخرج وصحته وصوابيته من كل وجه ، وتأسيساً على ذلك ، فالوصول الى اليقينية وغلبة الظن في المخرجات وتحققها لا يتأتى إلا باستعدادات قوية ، مَكيْنة ومتكاملة ( علمية _ قضائية وفقهية _ ونظامية ، وعقلية _ وهي الوصول الى أعلى مدركات الفهم للواقعة المقضي فيها _ في انضباطية جادة ، ومنجزات سريعة متقنة ) وتكون في بيئة غاية في التجرد والشفافية ، فهذه المنظومة المتكاملة هي الوسيلة للوصول الى أعلى مراتب العدل ، وعلى كل هذه الأسس ينبغي أن تنطلق كل التقويمات ، والتقييمات ، والمعايير ، والتطوير ، والمشاريع ٠
وافر الشكر والإمتنان والدعاء لولاة الأمر - وفقهم الله وسددهم- على حرصهم لرعاية المرفق القضائي ، والحفاظ على استقلاليته وهيبته ، والوقوف على متطلباته وحاجياته .
أسأل الله لي ولجميع العاملين في مرفق العدالة ولجميع المسلمين الثبات والتوفيق والسداد ، إن ربي سميع قريب مجيب٠
إنه بعد تتويج الموافقة الكريمة السامية ، تُطوى مرحلة من حياتي العملية ( كقاض ) لأستقبل مرحلة أخرى إن شاء الله ، ولأتجرد من كل الألقاب القضائية ، التي كانت تسبق الاسم ؛ ليبقى اسمي متصدراً متحرراً من أي لقب ( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) ولأعود كما سُميت في نشأتي ، فإني الفقير الى عفو ربه الودود
بقلم /عبدالله بن إبراهيم آل داود